الثلاثاء، 24 يناير 2012

عندما يقول الفن كلمته...!!!



يجسد الفن واقع الإنسان ومعاناته، بؤسه وفرحه، فرجه وكربه، إنه حياة إنسانيّة بكل ما تحمله الكلمة من معنىً. وعندما يثور الإنسان يثور الفن.
يستطيع البشر من خلال الفن التعبير عن مكنوناتهم الداخلية بصور حسيّة مختلفة، ينقلونها إلى بشر مثلهم، فتتلاقى التجارب الشخصيّة أو تختلف. تعددت طرق التعبير. وتنوعت معها وسائل توصيلها للجمهور، فمنهم من عبرّ بالموسيقى، بالنحت، بالرسم، بالمسرح، وبغيرها من الطرق المتنوعة. ومع مرور الوقت تنوّعت الطرق التعبيرية وأصبح لها علمٌ يُدرّس، ولكل فنان منهجه وطريقته الخاصة. فها هو الإنسان المبدع يلتقي مع المشاهد ليخوضا معاً تجربة التعبير عن الواقع والبحث عن طرق تنال الاستحسان من الأخير.

والآن وفي ظلّ الثورات العربية التي تنبجس في شرقنا العربي، ما هو واقع الفن؟  وكيف أستطاع أن يعبر عن نفسه؟

الفن في التاريخ المصري ( المسرح)                                                
في مصر ولد يعقوب صرّوف لوالدين يهوديين جاءا مصر من سوريا، وقد حاول عام 1869تأسيس مسرح مصري تعرض على خشبته مسرحيّات مصرية ناطقة بالعربية، متأثّراً بما رآه في إيطاليا. وقد سُمح له آنذاك أن يتعرّف على جميع فئات المجتمع المصري من حرفيين، وعمّال وجاليات أجنبيّة، وحتى الطبقة الارستقراطية، فاستفاد من ذلك في رسم شخصياته المسرحية الكوميدية. عرض صروف مسرحياته التي لاقت رواجاً هائلاً إلى أن قدّم مسرحية (الوطن والحرية) فغضب عليه الخديوي لأنه سخر فيها من فساد القصر فأغلق له مسرحه ونفاه إلى فرنسا حيث استقرّ في باريس إلى آخر حياته. وقد آثرنا طرح هذا المثل كي نوضح إشكالية الفن والسياسة في مجتمعنا المصري. فالفن هو المرآة التي تعكس الواقع، وهو لسان حال الشعب الذي يعبّر به عن موافقته أو رفضه لما يحدث داخل الدولة من أمور سياسية واجتماعيّة، في إطار دراميّ، أو سينمائيّ، أو مسرحيّ، أو غيرها من طرق التعبير الفنية المختلفة والمتنوعة.

المسرح كمثال لفن ما قبل الثورة
عاش المسرح دوره المناضل على الجبهتين الخارجية والداخلية منذ أن دخل إلى مصر. فعمل المسرح على بثّ روح الوطنية في روّاده لمكافحة التدخل الأجنبي في مصر وخاصة تدخل الاستعمار البريطاني. أمّا على الصعيد الداخلي، فلم يسلم الملك أو حاشيته أو رئيس الوزراء المصري من نقد الفنانين أو مدحهم على خشبة المسرح، فكان المسرح بحقّ مجسداً لنبض الشارع. لم يعالج المسرح الواقع الاجتماعي فقط، بل السياسيّ والاقتصاديّ في الداخل والخارج، وتناولها بطريقة تراجيدية أو كوميدية على حدّ سواء.
لن نبتعد بالتاريخ كثيراً، فمنذ قيام ثورة يوليو 1952 لم تبنِ مصر مسرحاً واحداً، بل تمّ فقط تحويل بعض دور العرض السينمائي إلى مسارح، حسب بعض الإحصائيات الرسمية المدونة في نقابة المهن المسرحية. وفي السنوات الثلاثين الأخيرة عاد بعضها كما كان. كما نجد أن المسرح تمّ هجره تماماً في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتدهور بشكلٍ متعمّد من حيث بنيته التحتية، وأُهمل بشدة وسقط من أجندة وزارة الثقافة التي همّشته وخربته وأفسدته. مثال ذلك حريق مسرح قصر ثقافة "بني سويف" التابع للدولة، ذاك الذي وقع في 5 أيلول (سبتمبر) عام 2005، وأسفر عن مقتل عدد كبير من الضحايا.
وعلى الرغم من الإهمال المتعمّد الذي عانى منه المسرح، فلا يمكننا أن نغفل الدور الرقابي الذي كانت تلعبه الحكومات المصرية المتعاقبة على كلّ الإبداعات الفنية المختلفة. فكانت الرقابة الأمنية المتشدّدة تمنع عدداً من الأعمال المسرحية الجريئة والحرّة التي تعالج المشاكل المتنوعة التي تمرّ بها البلاد على مختلف المستويات.
عادل إمام في مشهد من مسرحية الزعيم 
وعن المادة التي كانت تقدم في المسرح، ففي السنوات الأخيرة نجد أن معظمها لا يخلو من السفه والبحث عن الضحك لمجردّ الضحك، فلا نجد سوى محاولات مبعثرة هنا وهناك لتقديم قضية جديدة تتناول الواقع الحالي، أو لمحاولة إحياء مشروع المسرح العربي المصري بتقديم أعمال عالمية باللغة العربية، كمشروع المسرح للجميع لمحمد صبحي. ولا يخفى علينا ظهور بعض المعارضة على المسرح من خلال بعض رموز النظام من الفنانين والذين أعلنوا ولاءهم المباشر للنظام في المرحلة الحالية. فقد كانت مسرحيات  عادل إمام، والمعروف ب"الزعيم"، تُعرض لسنوات عديدة وبها نقد ما للسلطة، لنكتشف أنه كان صورة مبتذله لمعارضة شكليّة يباركها النظام، ويُظهر بها أمام دول الخارج صورة أكثر زيفاً عن التحضرّ الشكلي الحاصل في فيها.
وبالحديث عن المسرح لا يمكن أن نغفل الجمهور الذي يرتاد هذا النوع من المسارح، فلم يعد كما كان في السابق، من مختلف أطياف الشعب المصري. فعندما نعرف أن أسعار التذاكر تتراوح ما بين الخمسين والمائتي جنيهاً مصرياً. نتأكّد أنّ ليس لمصريّ بسيط من عائلة متوسّطة الحال أن يرتاد المسرح المصري، الذي كان بالتأكيد في انفصال تامّ عن الواقع المصري الشعبي.

بزوغ ثورة الفن
لم يحرم كلّ ما سبق الفنان الأصيل من التعبير عن فنه، ولم يثنه عن خلق مجاله الخاص لتحلق فيه حريّته التي حباه الله بها. فقد كانت ردة الفعل لتردي الوسط الفنيّ عموماً والمسرحيّ خصوصاً، هو نشوء ما يسمى بالمسارح الشعبيّة، وما يطلق عليه مسرح الشارع. كما أنشئ الشباب المبدع العديد من الفرق المسرحية والغنائية. فمن الفرق المسرحية التي نشأت حديثاً  كـــ "فرقة الورشة"، التي أسسها المخرج المسرحي حسن الجرتلي، وتقوم بأعمال التمثيل المسرحي بطرق مبتكره فتدمج المونولوج والأغنية مع النصّ المسرحيّ ليخرج لنا بما يشبه الأوبريت. وغيرها من الفرق المسرحية التي وجدت لها من طبقات الشباب المختلفة رواد أصلاء يبحثون عنها، ويرافقونها حيثما تحلّ.
اهتمت بهذه الفرق بعض الجمعيّات الأهليّة الخاصة وبعض منظمّات المجتمع المدنيّ، مثل ساقية الصاوي، وجمعيات النهضة،  الجزويت والفرير، والغد، التابعة للرهبانية اليسوعيّة. ومنها كانت شرارة الثورة، ومن هنا نجد أنّ الشباب كان قادراً عن التعبير عن نفسه والبحث عن طرق للهرب من الرقابة الأمنية والتي كانت تلاحق هذه الجمعيات أيضاً وإن بصورةٍ غير رسمية، وطرق ملتوية. 


ميدان التحرير...ميدان الفن
ولعلنا عندما نعود بذاكرتنا إلى أحداث ميدان التحرير، إلى الأهازيج والأغاني والشعارات التي كانت تصدح بها حناجر هؤلاء الشباب، لوجدنا أنها نتاج هذه المسارح الثقافية، وبعض هذه الفرق الشبابية الصاعدة، والتي أبتَ أن تستسلِم للصمت والقمع، بل راحت تبني رويداً رويداً حلم ثورتها الذي لم ينطفئ أبداً عن خيالها، بل ظلّ يتوهّج ويزهو حتى أحرق كلّ ما يقف أمامه في ثورة فريدة من نوعها، كانت الأغنية والشعار سلاحها، مقابل قنابل مسيلة للدموع، ورصاص قنّاص أبى أن يرى حلم الشباب وليداً، بل صمّم أن يقتله، وكأنّه لم يكن شابًّا يوماً من الأيام.
ثار الشعب المصري بالرغم من كلّ سبل القمع والفساد التي كانت منتشرة في أركان النظام السابق، وقاد الفن بزوغ هذه الثورة وكان شاهداً على أحداثها، عندما ساهمت ظروف القمع والاستبداد في خلق مناخ التحديّ أمام الشباب المبُدع والمُبتكر. فقبل بدوره هذا التحدي، وعمل على خلق ظروف ملائمة تساعده على التعبير والثورة من خلال فنّه على هذا الواقع المرير والكريه، فتناول في فنه كلّ ما حوله من أنظمة سياسيّة فاسدة أو مناخ اجتماعي تدنت فيه الأخلاق حتى كادت تنعدم، أو حتى واقع المصري البسيط الذي يعاني من أمراض الفقر والغلاء، وينهش في جسده العراء والمُصاب في عقله بداء الجهل والبلاهة. كلها أمور ساهمت في ثورة شباب، عبّروا بفنهم عن انتفاضتهم، وضحّوا بحياتهم في سبيلها. ولا يمكنا أن نغفل في حديثنا عن شهداء الثورة المصرية أحد فنانيها هو أحمد بسيوني الذي راح يرصد بآلة التصوير الحديثة خاصته أحداث الثورة ويوثّق مراحلها، فإذ بعدسات كاميرته تارة تلتقط صورة، وتارة أخرى تحذّر من قناّص يستعد ليفتك عن بُعد بضحيته. فاستخدم آلة التصوير في كشف مراكز القناصة وتحذير الثوار منها، ولكنه أصيب في النهاية برصاص قناّص لم يرحم فنّه أو حياته.


قال الفن ّكلمته، وصرخ في حناجر الشباب ....الشعب يريد إسقاط النظام، فكانت له الكلمة الأولى، ومازال في صراعه لإسقاط النظام حتى لحظة كتابة هذه السطور، فالفنّ لن ينضُب طالما هناك إنسان يبحث عن الحياة.